2024/11/21 | 0 | 384
( غرق في المجاز، مَجازٌ في الغرق ): قراءة في ديوان الشاعر جابر الجميعة
تقديم:نورة النمر
قبل لحظةٍ من الغرق :
عنوان المجموعة ( غرقٌ في المجاز ) فيه إيحاء يُدخِلنا الى الشعر من خلال غرقٍ مجازي، وهو عتبة جميلة لنصوص المجموعة التي ترتفع فيها وتيرة الأحاسيس ، لتأخذ القارئ بين مدّها وجزرها ،ليغرق بكاملِ رغبته في خضمّ هذه المجازات لكنه (قبل لحظةٍ من الغرق) وفي نصٍ هكذا عنوانه ، يبدأ ببيتٍ شعري فيه لفتٌ للانتباه لهذا البحر من الانفعالات :
أعرني مدى عينيك كي أبصر المدى
فنصفي مفقودٌ ونصفي تشردا
نجد في هذا النص أن العمودي يجتمع بالتفعيلة في ثلاثة مقاطع شعرية كل منها ينتمي لبحرٍ شعريّ مختلف ، بيتان على البحر الطويل ، مقطوعة تفعيلية على بحر الهزج ،ثم نص تفعيلي على بحر المتدارك ، هذا الدمج لمقطوعات مختلفة، فيه تناولٌ للفكرة ذاتها من زوايا عدة ، وهذا ليس غريباً في الشعر الحديث ، فقد قرأنا كهذا المزج لدى بعض الشعراء ، ومنهم الشاعر محمد الثبيتي رحمه الله في تغريبة القوافل والمطر حين يمزج العمود والتفعيلة . لكن الشاعر هنا جمع مقاطع شعرية مختلفة . تعبر عن مزيج من المعاني التي تشكّل بعض الملامح عن هذه الروح التي تحّن إلى الاغتراب الذي يقول فيه رامان سلدن (الخطاب الشعري قائم على التغريب ) ويربط ذلك بالحنين إلى الطفولة فيقول في النص ذاته :
لأني أفكر كالطفل
أحتاج كراسةً من غيوم
وأحتاج غابة حلوى
لأرسم هذي الحياة .
وفي بيت من نص (نذرٌ على الماء ) نتلمّس مشاعر الاغتراب والبحث عن الذات بشكل دائم :
(فمن رحيلٍ إلى منفى أطاردني
وأنتهي برصيف الخوف ملتصقا)
ويختم النص بقوله:
(وإنّ بي ضعف ما في الأرضِ من وجعٍ
وبي من الحب ما يكفي لنعتنِقا )
وفي هذا المدخل دعوة للمشاركة ( أعرني مدى عينيك ) في ديوان تتجه بوصلة قصائده في معظمها إلى الذاتية ، فهي تعالج التأمل في أعماق النفس فتعكس الحزن و الألم ، الحب ، الشوق بخطاب للوعي حيناً أواللاوعي حيناً آخر ، وتتناول الكتابة والبوح كعنصرٍ جوهري في الذات وجزء من روح المبدع ، فيقول في نص (سقوط مجازي) :
(أسقطتُ سهوا أم سقطت لزاما
حسب القصائد أن يكن سهاما
حسب القصائد أن يكنّ دفاتراً
ومواجعي العظمى غدت أقلاما)
ونجده يتغنى بالمجاز كملمحٍ من ملامح شخصيته ونبض مشاعره ، يقول في نص : ( مجاز بطعم التيه )
(معلقٌ بين هذا التيه يحملني
غيم المجاز إلى أقصى مجراتي
كأنني وانهمار البوح أشرعةٌ
والريح تعبث في شتى مساراتي)
ونرى القصيدة في الكتاب تلقي ظلالها على كل الأشياء ، فيربطها بالموسيقى كما في نص (الناي ) وينزاح بها دلالياً لتكون كالقهوة كما في نص( فنجان القصيدة ) وكألبوم الصور كما في ( أبصرت من أهوى على ديواني ) أو كالإنسان كما في (غفوة على صدر القصيدة) وكعِرقٍ ينتسب إليه حين يقول في قصيدة (من أنا) :
قصائدي لو تُرى تُنبيكَ عن نسبي
إنّ القوافيَ أمي ، والمجازَ أبي
وكلّ حرفٍ تخفّى خلفَ رونقِهِ
قد كان شيخاً ولكن في لباس صبِي
الأرضُ والشعرُ والحُب :
ولا ينسى مدينته ( الجفر ) التي يتغنى بحبها بشيءٍ من التفاصيل في نصٍ يضجُ بالحنين الدائم لهذه الأرض أو منبع الحب ، ومرتع غزالة الشعر يقول :
يا جفرُ يا معبر الركبان من هجرٍ
لولاكِ ما عبرَ الركبانُ أو ركبوا
بكِ الجمال الذي أرخى سدائلهُ
عليك فاسّاقط الليمونُ والرُطبُ
ويقول في ختام الأبيات :
يا لائمي في هواها كيف أتعبني
فتّش هواي وقل لي هل به تعبُ
هذي هي الجفرُ يامن كنت تسألني
عن أصل معناي أو من أين أنتسِبُ
وهو يشير إلى غزارة شعراء هذه الأرض لكن باستعارة جميلة فيقول :
غزالة الشِّعر في عينيكِ مرتعُها
ومن سواقيكِ كل الخلقِ قد شرِبوا
فالجفر منطقة حافلة بالمبدعين من الشعراء ومنهم الشاعر القدير والمعروف جاسم الصحيّح ، وهو هنا يذكر الشعر مَعلماً لهذه المدينة كما يشير لأشجار الليمون والتين والعنب ويتطرّق لذكر لبعض معالمها البارزة كحي (برزان ) ومزارع (الروايس ).
التجربة الإنسانية وتشكيل هوية الإبداع :
النصوص تمد جسوراً من المعاني بين المتلقي والنص وتخلق روابط شعورية بما فيها من تدفق وجداني إذ تنبض بالتجربة الصادقة ، ففي نص ( أجرّدُ مهجتي) مثلاً نجد شعراً محملاً بالدعوة إلى الحب نابعة من حسٍ إنسانيّ عميق :
ولو أدعى لمكرمة ألبي
فخير الناس من للناس لبّى
وأجمل ما تكون به حياةٌ
زمانٌ فيه يبدو الناس صحبا
نستشعر في الأبيات نبضاً من الحكمة لما فيها من حثّ على النُّبْلِ والتحلي بأجمل الصفات ٠
أما قصيدته ( طفلٌ ملائكي) المُهداة لأطفال التوحّد في العالم ، فتعبّر عن مشاعر مرهفة ، ربما مرّت على معظمنا ، هذه الأحاسيس المختلطة تجاه هؤلاء الأطفال فأجاد صياغة الفكرة حيث استوحاها من بعضِ سماتِهم وسلوكياتهم
ومما جاء في النص :
هو أجمل الأطفال يكفي قلبه
بالطهر منسكباً إليكَ يمدّه
ويشير للاشيء يحملُ دميةً
هي ذاك عالمه البريء أعدّهُ
يمتدّ منفرداً فيُسرف في الرؤى
لاشيء في هذا الوجود يحدّهُ
عيناه جلستهُ بكاهُ وهمسُهُ
وكلامهُ اللامنطقيّ وسُهدُهُ
وخياله الأقصى خيالُ قصيدةٍ
تعبت وطُورد في المعاني قصدُهُ
فبرغم أن كل مواضيع الديوان نابضه ، إلا أنّ هذا النص يثبت أهمية الشعر والأدب في توثيق التجارب الشعورية الصادقة والخليقة بأن تُنقَل على جناحٍ لغةٍ مشرِقة ، لتقريب المسافات و لفهم أبعادٍ إنسانية أعمق، وتجلياتٍ فكرية تجعل هذه القضايا في الصدارة وهو أمر بالغ الأهمية بجميع المقاييس.
هشام
ولأن العاطفة هي موقد الكتابة الشعرية فأغلب النصوص تحتفي بهذه الحالة الوجدانية التي تمنح البوح سحرهُ ، وقوة العاطفة هي أهم ما يتميز به هذا الديوان ، لكن تجربة الفقد تبقى الأكثر حضوراً وتأثيراً في تجربة الشعراء لكونهم أكثر تعاطياً للعواطف التي تشكّلُ جذوة نتاجهم الفكري والأدبي فبالكتابة يبني الشاعر في روحه ما هدَمه معوَل الفقد ، ويرمّمُ مشاعره بضماد البوح فهو يجد في ذلك شيئا من التعويض ، ولعلها لغته في التصالح مع فكرة أن يكمل الحياةَ بقلبٍ مكسور ، وهنا يخص الشاعر ابنه (هشام) بنصين في المجموعة ويقول في نص ( ولدي هشام )
وفي سكونكَ تجري ألفُ عاصفةٍ
كأنك الريح والصحراء في بحرِ
وفي نص (وداع باتساع الشوقِ إليك) الذي يبلغ ثلاثين بيتاً ليكون الأكثر طولاً بين نصوص المجموعة ، وفي ذلك إشارة لانهمار هذه الأحاسيس ومدى تأثيرها في نفس الشاعر ، يقول في رثاء هشامهِ :
حيّرتني رغم التصبر روحي
وعثا الشك في اليقين وجالا
وتخطّت حرارة الفقدِ شوطاً
من فؤادي وجاوزَتْهُ اشتعالا
والقصيدة حافلة بالشواهد على اشتعال الاحاسيس وتوهّجها وتتنوع أفكار الأبيات بين بث الحزن ، وبث الشوق والانكسار ، وهي أيضا مبطّنة بأفكار تتّجه نحو شيء من التضارب والغموض ، في ختامها يقول :
ها أنا والغياب يحفر قلبي
ويغذّي الحياة منك اعتلالا
ها أنا الآن غارقٌ فيك كلّي
وأناديك ياهشامُ : تعالَ
الانزياحات الدلالية والخروج عن المألوف :
ولأن الخيال هو الجناح الرديف للعاطفة في النصوص فلقد بدت ثريةً بالصور والالتقاطات التي برز المتخيّل الشعري فيها بأسلوب بليغ ، كما في هذا البيت :
فإذا ابتدآ غرقٌ تطوف بنا الرؤى
مطراً كلامياً ونحنُ صواعِقُ
وقد استوقفتني حداثة الصورة في البيت الذي يقول فيه :
(مُتبتلون على الدوامِ يظننا
الغاوون طيفاً ، إنما هوَ غامِقُ )
فلقد جرت العادة على استخدام كلمة مفردة (غامق )أو ما يرادفها في الإشارة للمحسوس البصري كعمق اللون وكثافته ، أو حلكة الرؤية ، لكنّ الشاعر بهذا الانزياح الدلالي يطوّعها لتشير لعمقٍ غير محسوس وهو حضور الطيف أو الخيال في تصويرٍ يمازج بين ما هو حقيقي ومجازي ولعله المشبّه حين يطغى على المشبّه به ! والصورة بغرابتها تتّسع لباب مفتوح من التأويل ، ورغم أنّ شرحِ البيت بهدف القبض على معنى محدد يذهب بجمالية الشعر ، لكنها محاولة مني لاستكناه أبعاد توظيف الشاعر لهذه المفردة بأسلوب يحتملُ أكثر من معنى فلعلهُ يقصد بذلك التذبذب بين الحضور والغياب ، مما (جعل هؤلاء الغاوين يظنوننا طيفاً لكنه طيفٌ مختلف تماما عن أي طيف ) وبغضّ النظر عن البعد الجمالي، فإنّ الاستناد على أسلوب الحصر في( إنما ) في البيت هو مفصلٌ يتّسق بالفكرة لتتداعى الصور المتناقضة في الذهن .
ومن المعاني الجميلة قوله :
ويسألونك عن معناه قل أترى
يستنطق القلب عن نبض ويعربهُ
نجده يُحلّق بالمعنى بمزيج من الاستعارات عبر سؤاله في نص تفعيلي يدور في فلكِ الكتابة ، والحب أيضاً بعنوان ( من أنتِ) :
من أنتِ ؟
يا وجع السؤال
إذا تكثّف نزفُكِ المأزوم في لغتي
وجاوَبني تعالْ!
وأيضا قوله في اختزال للكثير من المعاني :
(كن قيد قلبِك
لا شيء غيرك يجري بهذا الفلَكْ)
الثنائيات الضديّة وتكوين الدلالة :
استخدم الشاعر آلية الثنائيات الضدية ، وهي الجمع بين الشيء وضدّه في كثير من الأبيات لخلق مفارقة تتكامل بشعرية النص وتشكّل دلالتها المختلفة ، وفي هذا تأكيد للمعنى الذي يقول ( والضد يظهر حسنهُ الضدّ) على سبيل المثال الطباق السلبي في هذا البيت الجميل من نص (برزخٌ من الشوق ) :
(لاهُنا جنةٌ ، ولا تلك نارٌ
إنما برزخٌ من الشوق يجري )
أو في هذا البيت من نص (غرق في المجاز )
(غرقٌ يلفُّ الأرض عكس مسارها
فإذا المغاربُ في الحنينِ مشارِقُ )
وكان استخدام الثنائيات مكثفاً في سياق معظم النصوص ومنها تلك المعنيّة بالشعر والمجاز ، كما في نص (إلى سيدي الشعر )
يظُنّ من ولجوا فيه سواسية
لكنّ أسهلَ ما في الشعرِ أصعبُهُ
-وفي البيت من نص (طفولة شعرية )
تمضي الليالي ونمضي في مآزقها
نجمان ما ابتعدا إلا ليقتربا
ونراه موظّفا اسمه بأبعادهِ الدلالية توظيفاً عميقاً قائما على التضاد في أحد الأبيات :
لكنني سأظلُ أكسر مهجتي
حتى وإن نُوديت يوماً ( جابرا)
وكذلك في البيت :
وأذيب من قلبي حميم مشاعري
حتى أعيد لآدمٍ حواهُ
وقد نجد تضاداً ضمنياً حيث ظاهر دلالات المفردات من أفقٍ يبتعد عن جوهر المعنى المقصود لكنّ الشاعر يطوّعها لتتناسب مع معناه كما في عدد من أبيات ( من أنتِ ) :
من أنتِ ؟
حتى هزّني فيما أحسّ به
وبين مسافةٍ هي كالمُحالْ
مذ كنتِ أقرب ناسكٍ للقلبِ
مُذ طوّقتِ ناصية التصوّف بالجلالْ
فالنُسك ، التصوف ، الجلال لغوياً بعيدة عن دائرة الحب والغزل لكن ببعض التلاعب المجازي تصبح الصياغة جديرةً بخلق هذه الفكرة .
.
التكرار :
تقول المستشرقة (بربرا جنستون كوتش) في التكرار: "هو الإقناع من خلال الصياغة وإلباسها ايقاعات نغمية متكررة جميلة تهدف إلى استمالة السامع." ، وهو شكلٌ من أشكال الوحدة الموضوعية ، وإبراز جمالية المعنى ، : والتكرار بما فيه من ترجيع للمعنى ، وترديد للمقاطع والمعاني في النص او المقطع الشعري يخلق تجاذباً خاصاً سواءً كان للمعنى ، او الصورة ، او المفردة او الحرف ، في ذهن المتلقي ، فيشكّل إيقاعه الخاص ، وهنا بعض من الأبيات التي تمثّل استخدام الشاعر لتقنية التكرار:
● كتكرار المفردة ذاتها في العجز بعد استخدامها في الصدر مثل أبيات من نص (قد يصدق الشعر) :
هي لحظةٌ خذلتك إن أبدعتها
هي لحظةٌ أبدعتها مخذولا
أو تكرار المفردة في الشطر ذاته كقوله في نص (مناجاة)
أناجي وأتلو والهوى يتبع الهوى
فلا الوحي صلى بي ولا الشعر قد نوى
أو حين يرد عجز البيت لصدره عبر مفردتين تشيران لنفس المعنى ككلمتي ( ضائع ،أضيع ) في البيت من نص (أبصرتُ من أهوى على ديواني ) :
لستُ الوحيد ولستُ آخر ضائعٍ
وأضيعُ أحياناً معي بمكاني
الخيال الشعري وبناء الصور:
في بعض الأبيات نجد أن المبالغة في التصوير الشعري تُعمّق المعنى الذي يريده الشاعر،
ومن نماذجه هذا البيت من قصيدة (أبصرتُ من أهوى على ديواني ) فعنوان النص معنى قائم على الإشارة حيث (الدال /الرمز) تحول القصائد والديوان إلى لوحة يُبصر فيها من يُحبه ) ( والمدلول /الفكرة ) ( ملازمة طيف محبوبته له ) وفي ذلك اتّساقٌ للمعنى المجازي الذي أراده والدلالة المعطاة والتي تُفهم من سياق الأبيات ، ولعله ينطبق على فكرة استناد الكاتب على الكتابة كوسيلة ليتحرر من همومه وأفكاره وربما ليتجرد من مشاعره لكنه يستمر في هذا الصراع وهو سيطرة المحبوب على أفكاره و هي الفكرة التي يقوم عليها النص الذي يقول فيه :
من نص (أبصرتُ من أهوى على ديواني)
حتى إذا أفنيتُ كل قصائدي
أبصرتُ من أهوى على ديواني
ونفختُ في صور الكلام روائعي
وبعثْتها في محشر الاحزانِ
..
أمتعني التجول بين صفحات الديوان وأحببت أن أدوّن في هذه القراءة بعض ما رصدتُه من جمالياته ومميزاته ، على طريقتي في التذوّق والقراءة .
وللمُهتمين بالنقد هو مادة ثرية للقراءة والتدقيق من ذوي الخبرة الأكثر كفاءةً ، وهودلالة عميقة على ازدهار الأحساء دوماً بالمبدعين .
جديد الموقع
- 2024-12-26 نحو معارض للكتاب الخيري
- 2024-12-26 معادلة الانتصار الإلهي والقيم العليا
- 2024-12-26 أحياة هي أم ظروف حياتية؟
- 2024-12-26 د.نانسي أحمد أخصائية الجلدية :العلاج البيولوجي أحدث وأهم الخيارات في معالجة الصدفية
- 2024-12-26 "ريف السعودية" ونادي الشباب يوقعان مذكرة تفاهم لتعزيز المسؤولية المجتمعية
- 2024-12-26 تجهيز عربة عيادة أسنان في الأحساء
- 2024-12-26 4 مليارات لفرص المسؤولية الاجتماعية خلال 21 شهرًا
- 2024-12-26 نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء
- 2024-12-26 ما الكون إلا زمان .. إلاك
- 2024-12-25 قراءة في حياة الشاعر علي الحمراني